حينَ يُسرقُ دفء الفؤاد، يتجمّد الصدر وكأنّما بثّت ريح الشّمال عليه أنفاسها، فيُصبح الصباح بارداً.. ويمسي المساء أبرد!
تتلبّد الغيومُ في دواخلنا.. وتثورُ الأعاصير ثورتها، حتى يرجِف جوفنا رجفاتٍ ثقيلة.. ثقيلة جداً!
إلى أن تسيرَ تلك الغيوم الباردة آخذةً معها الكثير من انبعاثات هذه الحياة التي طالت على قِصَرها، وكثر تعلّقها بأجسادنا المُنهكة، فيشاء الله أن يقضي فيها أمراً كان مفعولاً، ويتحوّل البردُ إلى دفء نابعٍ من أفئدتنا من دون اتكاء على آخرين لا يأبهون بها.
حتى نشعر أننا دخلنا عالم الملكوت، وتتحول أخبار الغيب عندنا إلى شهادة ملونة بجماليات رائعة لا يمكن وصفها، وحينها نحسّ بأن الحياة أجمل وأوسع وأمتع من تلك التي كنّا نعتقد أنها حياة
إلهي، إن حُروفنا الهائمة على أبواب رحمتك
ترتجي منك العطاء.. فاغمرها بعطف حنانك يارب



علّموا أبنائكم السّفر، علموهم أنّه تِرحال لصقل المعدن البشريّ، أن في كل مكان جديد صفحة جديدة من صفحات كتاب الكون. أنشئوهم على السفر، فإنه يعلمهم على جدّية الطريق، وعلى الدأب والسعي نحو الهدف، فإذا ما نام أو حاد فمتى يصل إلى وجهته؟علموهم أن السفر باب كبير على هذه الدنيا، فعندما تسافر سترى أشياء كثيرة تغنيك، ستفتح أمامك آفاقاً لم تكن تخطر لك على بال، وكل هذا يجددك، يجدد قلبك ويغذي روحَك
كما يُعرَف الصّحاب في السفر، تُعرف المعادن، ويتعرّى الإنسان نحو صورته الحقيقة. فهو علم للشبّان واختبارٌ للشيوخ.
سيتعلم أبناءك من هم، وكم يمكنهم السير دون أخذ قسط من الراحة، وكيف يوفرون في نفقاتهم المالية. كما سيكتشفون الأشياء التي يمكن أن تستثير اهتمامهم حقاً
.

كنت أتجنّب جداً صور الشهداء، مقاطع النّزوح، مناظر الخيام التي تدمي القلوب، وإذا ما مررت بها فإني أغلقها على الفور. كل هذا كان بعد الزيارة الأخيرة إلى الشمال السوري منذ خمسة أعوام تقريباً، ومن بعدها تغيّر كل شيء

في زيارتي هذه، حاولت أيضاً أن أبتعد لسبب ما عن كل ما قد خلّفته آلة النظام الفاجرة من نزوح وتشريد، ولكنه أمر لا يستطيع المرء التحكم فيه، إذ أنها كالأقدار ملاحقة له أينما ذهب، فهي تمتدّ على خطّ الأفق، حيث تغيب الشمس ويغيب معها كل شيء، تاركة وراءها ربما مئات الآلاف من الذين لا يملكون أدنى مستوى للعيش، تحت خيامٍ لا ترد إلا أنظار العالم بأسره عمّن يعيشون داخلها

نحن نسمع ونرى من وراء شاشاتنا ماذا يحصل على الأرض، من ظلم خارجيّ لنا، أو ظلم منّا لأنفسنا، ولكن الرواية غير مكتملة أبداً، إذ أن الذي يحدث يفوق الوصف، والجرح أكبر من أن يشفى بتركه يتعافى لوحده.
نحن أصحاب الأرض وأصحاب الحقّ، ولطالما ما كنّا كذلك، إلا أننا ابتعدنا رغم قربنا، فقست قلوبنا رغماً عنّا، وأصبحنا كغثاء السيل تتداعى علينا الأمم

لا بدّ للمرء أن يغسل قلبه كلما قسى
وغسيل قلوبنا في مخالطة أولئك الأناس الذين لا يعرفون من الحياة إلا اسمها، وأن نمدّ يد العون لأهلنا أهل العزّ في كل مكان قد يتسنى لنا، فإنهم أهلنا، وإنها أرضنا، وبلادنا، وإنها وإن جارت علينا، وأخذت روحنا وأجسادنا..
فإنها عزيزة عزيزة عزيزة
Back to Top